(1)
جلست تتأمل تلك الظلمة التى صنعتها قبل قليل، أطفأت كل الأنوار فى المكان فأصبحت تغط فى ظلام دامس، نظرت بداخلها لتبحث عما تريد، أغمضت عينيها لترى أحلامها بوضوح، خيالات بعيدة تراها بقلبها فينتفض بقوة، الصمت يخيم على الحياة حولها، هى لحظة ولادة جديدة، ستخرج هى من رحم تلك اللحظة المظلمة، تذكرت الأسطورة القديمة التى كانت تتحدث عن ألة الزمن، تلك الألة تأخذ مريديها لعالم آخر فى زمن مجهول، أهو ماضى كانوا يعيشون فيه ؟ أم مستقبل يبحثون عن أنفسهم بداخله؟ عبثا كانت أحلامهم كلها، فجمال الحلم أن تعيشه فى هذا الحاضر، ولكن بشكل مختلف.
ترتدى ذلك الثوب الأحمر، تنظر إليه فى النهار لتتأمله بشئ من الغبطة لايفسرها من حولها، هى وحدها تعلم بإرتدائه تلك الليلة وفى هذا الحلم الجديد، ذلك العطر الذى تعطرت به هو الآخر جزء من حلمها، تتحرك فى هدوء وسكينة لتنير ضوء خافت فى ركن بعيد، بقعة ضوء تتسلط على هذا المكان وسط ظلمة شديدة حوله، ينصت المكان بل تنصت الحياة كلها لتصغى لها الآن، بطلة متوجة على عرش مسرحها الصغير، ستكتب هى قصتها وستخرجها رائعة كما حلمت بها.
تشعر أن شئ مجهول يشدها للواقع المؤلم، تبحث بجميع حواسها عنه، لماذا لاتخرج من هذا القدر؟ وأى شئ يبخل عليها بما تريد؟ تركيز عميق حتى أدركته ! صوت تلك الساعة الملعونة يدق بإنتظام فيخرجها من حياتها الأخرى المنشودة، تهرع إليها لتوقفها بسرعة لتخلو بنفسها وتعيش ماتحلم.
تجلس فى ركنها المضئ لتفتح جهاز الكومبيوتر أمامها، نغمات صاخبة تنساب من أغنيات تعشقها، تنظر فى سماء الغرفة المظلم للحظات ثم تبحث عن شئ تريده على صفحات النت المختلفة، صورة سيدة فى الثلاثين من عمرها، عدة صور لتلك السيدة فى ملابس وأوضاع مختلفة، تبتسم لنفسها وهى تقول "أتبخل تلك السيدة أن أرتدى جسدها ولو ليلة واحدة؟ لاأظنها تمانع"، تستخدم برنامج متقدم فى الكومبيوتر لتضيف بعض الألوان على ملابس تلك السيدة فى صورها المختلفة، ضحكة عالية أطلقتها وهى تنظر لنفسها على الشاشة فى هذا الجسد وتلك الملابس، كائن جديد خلق على يديها لتعيش بداخله، ضحكات وصرخات عالية تأذن بهذا المولود الجديد، "ذات الرداء الأحمر" هذا هو الإسم التى ستدخل به عالمها الجديد تلك الليلة.
تنتقل بين غرف الدردشة وبين أشخاصها، أقنعة يرتديها البشر ليختفوا بها عن العيون، تتذكر أيضا تلك القصة التى يرتدى أبطالها أقنعة كلما هموا بفعل معصية، يتاوارون عن بعضهم وينكرون ضعفهم، قناع نختبئ خلفه لنفعل مانريد ونمتلك بإرتدائه حرية الخطيئة، عالم من الخيالات يعيشون فيه كما يحلوا لهم بلا خوف أو رقيب.
طلبات حوار كثيرة تلح عليها، تتأمل مايدعون على أنفسهم من عبارات وأسماء مختلفة، حتى وقعت عيناها على الرجل الحديدى كما يدعى فبدأت معه أول حوار:
- مساء الخير.
- مساء النور.
- إسمحيلى أهنئك على إسمك " ذات الرداء الأحمر"، أنا مهندس مصرى أعيش فى القاهرة، أتمنى التعارف والدردشة، أين تقيمين؟
- القاهرة ، كم سنك أيها الحديدى؟
- خمسة وثلاثون عاما ، وأنت كم سنك ؟
- ثلاثون تقريبا، هل أنت متزوج ؟ وهل هذه هى صورتك الحقيقية؟
- نعم متزوج ولكنى منفصل عن زوجتى لأسباب كثيرة، هى صورتى فعلا، هل أعجبتك تلك الصورة؟
- أيوة أعجبتنى جدا، واضح إنك بتلعب رياضة وجسمك رشيق وجميل.
- فعلا ، بأعشق الرياضة والسفر، ممكن أشوف صورتك.
وضعت الصورة بعد التعديلات التى أضافتها فى الألوان، تبتسم وهى تنظر لها فى إعجاب من شكلها الجديد.
- واو.. جميلة جدا، وجهك برئ ولكن نظرتك بها شجن واضح.
ضحكة مكتومة ساخرة خرجت منها بعد عبارته ، مازال الرجال يلعبون بألفاظهم مع النساء، جميل أن تستمع لتلك الكلمات، وآه لو تعرف أيها الحديدى كم الحزن التى تحتويه بين جنبيها، أفاقت سريعا لتكمل حوارها معه:
- شكرا صديقى.
- أشكرك على صداقتك التى منحتنى إياها، وأتمنى نتعرف أكثر ونتقابل لو تحبى أيضا.
- لامانع، فأنا وحيدة أغلب الوقت، زوجى مسافر منذ فترة ولاأحد معى.
عبارات أرسلتها كأنها طعم رقيق لفريسة جائعة، خبرتها بالبشر والرجال خاصة تنبئها بالنتيجة دائما، لحظة هادئة حتى كان رده:
- أتمنى اليوم قبل غد، ولكن كيف وأين اللقاء؟
- فى البيت عندى، أسكن فى عمارة 7 شارع الخليفة المأمون، شقة 22.
- هل هذا معقول، الآن.. هل آتى الآن؟
- لا طبعا، فأنا لاأعرفك جيدا، دعنى وقت أفكر، لا حقا، إنسى ماأخبرتك به، لاأستطيع مقابلتك، فلكم أنا مندفعة!، عفوا لاتأتى أبدا.
- لا بل سأتى الآن، أعتقد أنى أحتاجك حقا، معرفتنا ببعض نعمة من الله يجب أن نتمسك بها، ولكن هل تسمحى بمكالمتك فى التليفون ولو كلمة واحدة قبل حضورى.
- طبعا، أنا أيضا أود سماع صوتك لأشعر بالطمأنينة لك، ما هو رقمك لأتصل بك الآن؟.
أمسكت بتليفونها الخاص لتسجل رقم الرجل الحديدى، التليفون يرن من بعيد، صوته يأتى هادئ ووقور، مجرد ألو قالتها وأغلقت بعدها الخط مباشرة، محاولات منه لإعادة الإتصال دون جدوى، أغلقت تليفونها وفمها يتسع بإبتسامة شريرة.
بينما تغلق تليفونها، تأتيها رسائله على الشاشة أمامها تستحلفها أن ترد وتجيب، ترسل له كلمة واحدة " أنتظرك " وتتوقف عن الحوار معه نهائيا، ممل هو حقا، لم يكتف بما قالت وأراد، ستغلق عليه كل طريق للحوار معها ، وعليه أن يأتى لها كما دعته وتنتظر.
محاولات أخرى كثيرة لبداية حديث معها عبر غرفة الدردشة، أعجبها إسم أخر، يطلق على نفسه جنكيزخان، ردت عليه بلطف ليتعارفا فى البداية، يسكن فى الأسكندرية، جميل أن تعيش هناك ولو للحظات قليلة، مازالت بردائها الأحمر كما هى وإبتسامتها الرقيقة وحوارها المباشر تخاطبه وتدعوه للقاء، ترددها جعله يلح ويلح عليها، فهى تعرف لغة الدلال وتعرف كيف تقدم وتؤخر فى نفس الوقت، ألاعيب الأنثى بداخلها تطغى على كل حوار، ماأكثر الضعفاء! وماأسهل الإيقاع بهم! متعة هى حقا أن تراهم يتهافتون عليها وهى تلعب بهم! حوار ناعم وكلمات بمعانى متلونة، دعته فى النهاية لزيارتها بمسكنها فى كليوباترا حيث تقطن، أخبرته برقم المنزل ورقم الشقة كسابقه، ألمحت له أن يأتى متخفيا فى ظلمة الليل حتى لايراه الجيران، وأن ينقر بابها بخفة وينتظر حتى تفتح له بأمان.
وقفت بعدها تتراقص على أنغام أغانيها الصاخبة، تتمايل بجسدها الثقيل وهى تضحك وتضحك، فعلتها كما أحبت وتمنت، عاشت لحظاتها كما تريد وتحلم، ستنام الليلة وهى سعيدة حقا.
(2)
يوم جديد لايختلف عن سابقه من واقع مر شرير، كائنات تسمى بشر تقضى على أحلام وسعادة غيرها من البشر أيضا، تنظر إليهم فى حيرة وشك، لماذا يعذبون بعضهم البعض بكل هذه السعادة والمتعة؟ تمتعض وهى تتذكر كيف تعلمت منهم سعادتها فى شقاء الآخرين والإستخفاف بهم! تفعلها لحظات، مجرد لحظات ولكن غيرها يستغرق حياته كلها فى هذا، ويسعد بذل أخيه وشقاؤه، هى لاتضر أحد، دعابة ولعبة تحلم بها كل ليلة، ستحاول أن تبقى الأحلام بريئة فيما بعد، متى يأتى المساء لتلهو وتداعب الأحلام كما تريد؟
صرخات تطلقها على من حولها! ساعة واحدة تريد أن تخلو بنفسها فى المساء، تريد ان تهدأ من شقاء وتعب يوم بأكمله، ستبعد عنهم وتجلس فى ركنها الهادئ، ستطفئ كل الأنوار كعادتها كل ليلة، فليصمتوا جميعا حتى تستكين، كم تتمنى لو لم تولد هنا، كم تمنت شارع آخرتعيش فيه فى بلد أخرى، حلمها الجميل يداعبها، تبتسم لنفسها فى لحظة جديدة تولد فيها.
دخلت غرفة الدردشة بإسمها الجديد "البنوتة ميرى" ، تتعرف بالشباب من سنها وتحاورهم وتبادلهم القفشات الساخرة، صديقة تعرفت عليها تدعى سوزى ليبدأ بينهما حوار:
- هاى، أنا سوزى من كايرو، 20 سنة.
- أنا ميرى، مصرية أعيش فى كندا، مونتريال بالتحديد وعمرى 19 سنة، هاى سوزى.
هكذا قالت وهى تضع صورتها، وجه فتاة رقيقة بنظرة بريئة وإبتسامة خجولة، شعر قصير بنى فاتح، ملابس رياضية زاهية الألوان.
- مصرية تعيش بكندا، إحكى كيف هذا؟
- بابا دبلوماسى وأنا معاه فى مونتريال بعد وفاة أمى " الله يرحمها".
- أسفة ميرى ، دلوقتى هى عند ربنا وأكيد أسعد.
- طبعا.. ولكنى مفتقداها جدا، كانت صديقتى وأمى فى نفس الوقت.
- وبابا.. إزاى بيعاملك؟
- بابا حنون جدا، وأنا كمان عندى أصحاب كتير هنا ، عندى كمان بوى فريند بيحبنى.
- تصدقى انا لسة مش مرتبطة، كلها علاقات طفولية ، مش عرفت أى شاب أتعلق بيه.
وإمتد الحوار مع سوزى، تسألها عن منزلها وكيف تعيش؟ تجيب ميرى وهى تتأمل صور لمنازل وطرقات فى العاصمة الكندية، تخبرها بمحلات كبيرة ومتاجر مشهورة تشترى منها ملابسها، تحلم بنفسها وهى تسير فى تلك الشوارع وتدخل تلك المحلات، تحكى عن علاقتها بوالدها، رحلاتهما لمصر ومعرفتها بأقاربها الذين يعيشون حياة متواضعة هنا، مغامرتها مع صديقها فى كل مكان، حقد صديقاتها الكنديات عليها لجمالها وتألقها، تتحدث وتحلم وتبتسم، يختفى الحلم أحيانا فتغلق عينيها لتراه بوضوح من جديد، تتمنى أحيانا أن تعود لموطنها لتعيش كما يعيش أقاربها حياتهم، تقولها وهى تضحك وتضحك ككل ليلة، شكرا لك صديقى الكومبيوتر لمنحك لى هذه الأحلام وتحقيقها بسهولة.
إسم غريب يلح فى طلب الحوار معها، " أفلاطون" هكذا يدعى لنفسه هذا الإسم، أعجبها الإسم وأحبت أن تعرف من وراءه حقا، أنهت حديثها مع سوزى على أمل حوار آخر فيما بعد لتتعرف على هذا الأفلاطون:
- هاى .. أنا ميرى ، على فكرة انت لحوح وممل جدا .. لكن إسمك عجبنى.
- شكرا ميرى، حبيت نتكلم لو مش تمانعى.
- ممكن ، أنا قولتلك انا مين، ممكن أعرف مين أفلاطون ؟
- كائن يعيش فى عالم إفتراضى الوجود، روح هائمة فى سماء المعاناة فأتخذت هذا الإسم عنوان، وهذه الصورة ستارا لها.
- روح.. أى روح تقصد؟
- روحى التى تحدثك، ستشعرين بطعم الحياة فى كلماتى، طعم لايتيغير حتى لو تغيرت الأسماء والأشكال فى زمان ومكان آخر.
- لا أفهم ماتقول؟ أنا فتاة صغيرة، لايتعدى عمرى التاسعة عشر عاما، أعيش بكندا.
- لايهمنى إسمك أو شكلك أو عنوانك صديقتى الصغيرة.
- إن كنت لاتهتم بسنى، فكيف تدعونى صغيرتك؟ ألا تشك فى كونى أكبرك سنا.
- لاأتحدث عن السن فى كلماتى، بل أنتى بريئة الروح فى عالمنا هذا.
- أى عالم تقصد؟ هل أنت مجنون؟
- عالمنا الذى نعيشه ونختبئ بين معالمه بأرواحنا المتعبة، أما زلتى تنكرى بحثنا عن السعادة خارج دنيانا فى هذا المكان! نرتدى كل يوم ثوبا جديدا، نتقن تفصليه وإعداده لأنفسنا، نرتديه ساعة واحدة، نعيش معه حلمنا المنشود.
تنهدت مع وقع كلماته عليها، نظرت فى حيرة إلى الظلام حولها، من هذا؟ ماذا يريد؟ وماذا يجب أن تقول؟ لحظة أخرى حتى أتتها كلماته من جديد:
- عفوا لدخولى عالمك بغير إستئذان، يمكننى الإنسحاب فورا.
- لا أبدا، ولكن لى سؤال؟ هل تعرفنى؟ أو كان بيننا حوار من قبل؟
- لا أظن، روحك جديدة على عالمى ولكن معاناتك تتشابه مع معاناة الكثيرين ممن أعرفهم هنا، سعادة نبحث عنها، فهل وجدتيها؟
- لاأعرف لماذا أخاف الحوار معك؟ بك غموض وألفة فى نفس الوقت.
- لك كل الحق، فلقد خلعت ردائى بعد أن مللته اليوم، وخرجت بروحى أسبح فى عالم كل من فيه يرتدى ثوبه مفتخرا به، فصرت بينكم عارى يرى الآخرون عورته ويخجلون أن يراهم مثله..عفوا صغيرتى سأرحل حتى أجد لى رداء مثلكم لأختفى بداخله.
اختفى أفلاطون فجأة ورحل، تاركا كلماته تدوى فى أذنيها، ماهذا الهزل الذى صار، لماذا أوقفت موسيقاها ليستمع قلبها لحواره الغريب؟ هل سيفسد حلمها هذه الليلة بكلماته؟ لا لن يستطيع، موسيقى صاخبة تتراقص عليها وضحكة عالية كأنها صرخة مولود جديد تخرج منها لتبدأ حلم آخر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق