ما هو الكفر؟
من كتاب :
صِرَاعُ مَعَ المَلاحِدَة حتى العظم
تأليف
عبد الرحمن حسن حبنّكة الميدان
أصل معنى الكفر في اللغة التغطية الكاملة والستر التام ، يقال للابس السلاح الذي غطاه السلاح تغطية كاملة : كافر ، لأنه ستر جسمه به ستراً كاملاً ، ويقال للزارع : كافر ، لأنه يدفن الحب في الأرض فيغطيه بالتراب تغطيه كاملة ، ومنه قول الله تعالى في سورة (الحديد/57 مصحف/94 نزول):
{ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ ٱلْكُفَّارَ نَبَاتُهُ..}.
ويقال لليل المظلم : كافر ، لأنه يستر بظلمته كل شيء ، ويقال : كفر الليل الشيء وكفر عليه إذا غطَّاه ، ويقال للبحر : كافر ، لأنه يستر ما فيه ، وهكذا تدور الكلمة في اللغة حول الستر والتغطية .
واستعملت هذه الكلمة في الاصطلاح الديني للدلالة على ما يقابل الإيمان ، والداعي إلى تسمية إنكار الحق الديني كفراً ، أنه قائم على ستر أدلة الإيمان العقلية والفطرية الوجدانية.
فالإيمان هو التصديق ، والكفر عدم التصديق ، وكل إيمان بشيء يستلزم كفراً بنقيضه ، لذلك فكل مؤمن بالعقيدة الإسلامية الصحيحة كافر بنقيضها وبكل مستلزمات هذا النقيض ،ولذلك كان الإيمان بالله يقتضي الكفر بالطاغوت اقتضاءً حتمياً . وفي هذا يقول الله تعالى في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول):
{لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِٱلطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ لاَ ٱنفِصَامَ لَهَا وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
فلا يتم إيمان المؤمن حتى يكفر بكل الطواغيت ويؤمن بالله ، ولذلك اشتملت عبارة التوحيد على السلب والإيجاب ( لا إله إلا الله ) ، فهي تشتمل على الكفر بكل إله سوى الله وعلى الإيمان بالله وحده لا شريك له .
أما غير المؤمنين بالعقيدة الإسلامية إيماناً صحيحاً فقد عكسوا القضية ، فآمنوا بالباطل وكفروا بالحق ، سواء أكان ذلك بصفة كلية لجميع أركان العقيدة الإسلامية ، أو بصفة جزئية ، وفي هذا يقول الله تعالى في سورة (النحل/16 مصحف/70 نزول):
{أَفَبِٱلْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ ٱللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ * وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ شَيْئاً وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ}
ويقول الله تعالى في سورة (العنكبوت/29 مصحف/85 نزول):
{أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِٱلْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ ٱللَّهِ يَكْفُرُونَ * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِٱلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ }.
وحين تطلق كلمة الكفر ومشتقاتها في الاصطلاح الديني فالمراد منها الكفر بما يجب الإيمان به ، أو يجب الإذعان والخضوع له ، إلا أن توجد قرينة تصرف إلى معانٍ أخرى تتصل بالمعنى اللغوي ككفر النعمة ، وكفر العشير ، ونحو ذلك .
فمن أنكر الإسلام ولم يقبل ما جاء فيه من حق فهو كافر ، ومن أنكر أي شيء ثابت في الإسلام بصفة قطعية فهو كافر ، لأنه جاحد دين الله مكذِّب لرسوله فيما جاء عن ربه .
فجحود بعض اليقينيات الدينية يكفي للحكم بالكفر ، ولا يتوقف الحكم بالكفر على إنكار الدين كله ، لأن العقيدة الإسلامية متماسكة الأركان ، متماسكة العناصر تماسكاً كاملاً من جميع الأطراف ، وهي كلٌّ لا يقبل التجزئة ، فمن أنكر بعضها مما هو ثابت بيقين فهو بها كافر ، ومن كذَّب الرسول بشيء قد ثبت عنه يقيناً فقد كفر بنبوته ، ومن كفر بنبوة الرسول فقد كذب شهادة من أرسله ، وهكذا تتسلسل نواقض عناصر الإيمان ، حتى تصل إلى الجذر الأساسي فتنقضه وهذا هو الكفر الأكبر .
والكفر دركات بعضه أشد من بعض ، وبعضه أقبح من بعض ، والإلحاد القائم على إنكار الخالق إنكاراً كلياً أشد وأقبح أنواع الكفر .
* أصناف الكافرين:
إذا أحصينا أحوال الكافرين وجدناهم أصنافاً لا صنفاً واحداً.
الصنف الأول : الضالون فكرياً ، وهم الذين ضلوا سبيل المعرفة الإيمانية الحقة ، وأعماهم التعصب عن رؤية الحق وإن بُيِّن لهم ، فهم لا يستجيبون لداعي الحق مهما لفت أنظارهم إليه ، لأنهم غير مستعدين نفسياً لتغيير عقائدهم الضالة ، ويظلون يؤمنون بالباطل ويزعمونه حقاً.
فهؤلاء هم الكافرون الضالون ، وهم على مستويات بعضها أخس من بعض .
الصنف الثاني: المنحرفون نفسياً والجانحون جنوحاً أخلاقياً ، وهم الذين يعرفون الحق ، ولكنهم يصرون على مخالفته بدافع من الكبر أو الهوى أو التعصب أو بدافع من ضغط البيئة الاجتماعية وخوف انتقادها ولومها أو ضغط القادة المضلين أو خوف فوات منافع جارية ومصالح قائمة ، أو نحو ذلك فهم من أجل ذلك يصرون على الكفر أو يسيرون في ركب الكافرين .
وهؤلاء هم الكافرون المغضوب عليهم ، وهم شر مكاناً وأقبح كفراً ، لأنهم يعرفون وينحرفون فلا يعترفون ، وهم على مستويات بعضها أخس وأقبح من بعض .
الصنف الثالث: منافقون من فئة الضالين فكرياً .
الصنف الرابع: منافقون من فئة المنحرفين نفسياً الجانحين جنوحاً أخلاقياً.
والمنافقون مخادعون جبناء يتظاهرون بالإسلام نفاقاً ، ويبطنون كفرهم القائم على الضلال ، أو القائم على الانحراف والإصرار على الباطل ، وهؤلاء في الدرك الأسفل من دركات الكفر ، لأنهم قد جمعوا قبح الكفر وقبح النفاق وما يلازمه من صفات الكذب والخداع والاستهزاء وغير ذلك من صفات المنافقين .
والنصوص القرآنية قد أوضحت أصناف الكافرين ، واشتملت فاتحة الكتاب على ذكر المضلين والمغضوب عليهم ، وهو يعم منافقي هذين الصنفين ، وبسط القرآن أحوال أصناف الكافرين في مواضع كثيرة ، وكشف صفاتهم وأعمالهم ببيانات مستفيضة .
* من يُحكم عليهم بالكفر؟
تطبيقاً للمفاهيم الإسلامية التي تحدِّد مواقع الكفر نستطيع أن نحكم بالكفر حكماً إسلامياً على من جحد بذات الله أو بصفات الثابتة بيقين ، أو جعل مع الله إلهاً آخر ، أو أنكر رسالة محمد أو جحد بآيات الله وكتابه أو بشيء منه ثابت فيه بيقين ، أو كذَّب الرسول بشيء مما بلَّغه عن ربه وثبتت نسبته إليه بيقين ثبوتاً قطعياً ، أو أنكر شيئاً من أركان الإيمان ، أو أركان الإسلام ، أو جحد بحقيقة ثابتة في الإسلام ثبوتاً قطعياً .
لذلك حكم الله بالكفر على الذين قالوا : إن الله هو المسيح بن مريم ، فقال تعالى في سورة (المائدة/5 مصحف/112 نزول):
{لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَآلُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ ٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
أي فالذي لا يستطيع دفع الهلاك عن نفسه إذا أراد الله أن يهلكه كيف تدَّعي له الإلهية ، والإلهية هي للرب الخالق لا للعبد المخلوق .
والمسيح عيسى عليه السلام أمر قومه في دعوته لهم بأن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئاً ، وأوضح لهم أن الله ربه وربهم ، خلقه كما خلقهم ، وأوضح لهم أنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه جهنم بسبب كفره وظلمه الكبير ، قال الله تعالى في سورة (المائدة/5 مصحف/112 نزول):
{لَقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ ٱلْمَسِيحُ يَابَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيهِ ٱلْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ ٱلنَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ}
وحكم الله بالكفر على الذين قالوا : إن الله ثالث ثلاثة لأنهم جحدوا إحدى الحقائق الكبرى من حقائق الإيمان ، وهي حقيقة أن الله واحد وليس مركباً من ثلاثة ، فقال تبارك وتعالى عقب الآية السابقة:
{لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلاَّ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
وناقش الله أصحاب عقيدة التثليث بقوله بعد ذلك:
{مَّا ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ ٱلطَّعَامَ ٱنْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ ٱلآيَاتِ ثُمَّ ٱنْظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ * قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَٱللَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ}
وهذه المناقشة تقوم على إثبات البشرية للمسيح وأمه ، استناداً إلى بعض أوصافهما البشرية المعروفة فيهما ، إذ كانا يأكلان الطعام ، ومن يأكل الطعام لا يمكن عقلاً أن يكون إلها ً، ومن كان بشراً مخلوقاً فإنه لا يملك لمن يعبده ضراً ولا نفعاً ، ومن لا يملك نفعاً ولا ضراً فإنه لا يستحق أن يتقرب إليه بالعبادة .
وحكم الله بالكفر على الذين كذَّبوا بالقرآن ، فقال تعالى في سورة (فصِّلت/41 مصحف/61 نزول):
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِٱلذِّكْرِ لَمَّا جَآءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لاَّ يَأْتِيهِ ٱلْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}
فجعل سبحانه تكذيبهم بالقرآن كفراً ، وناقشهم في السورة نفسها بقوله تعالى :
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ}
وحكم الله بالكفر على من كذب الرسول محمداً أو غيره من رسل الله صلوات الله عليهم أجمعين ، ففي شأن المنافقين قال الله لرسوله في سورة (التوبة/9 مصحف/113 نزول):
{ٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ}
فجعل تكذيبهم للرسول ، كفراً لأنه في حقيقته تكذيب لله وكفر به وكفر بآياته .
وحكم الله بالكفر على من كذَّب بيوم الدين ،فقال تعالى في سورة (العنكبوت/29 مصحف/85 نزول):
{وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَلِقَآئِهِ أُوْلَـٰئِكَ يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي وَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
فالعقيدة الإسلامية لا تقبل التفريق في الإيمان بين أركان الإيمان ، أو بين عناصر الركن الواحد ، والإيمان غير قابل للتجزئة والتفريق ، بأن يؤمن الإنسان ببعض العناصر ويكفر ببعضها ؛ ومن فعل ذلك كان كافراً غير مؤمن ، وهذا ما أعلنه القرآن بقول الله تعالى في سورة (النساء/4 مصحف/92 نزول):
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرقُواْ بَيْنَ ٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذٰلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً * وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ منْهُمْ أُوْلَـٰئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }
ففي هذا دليل واضح على أن الإيمان لا يقبل التفريق بين أركانه .
وخاطب الله بني إسرائيل بقوله في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول):
{...أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ ٱلْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذٰلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ ٱلّعَذَابِ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}
وفي هذا النص دليل واضح أيضاً على أن عناصر الإيمان لا تقبل التفريق .
فالإيمان وحدة متماسكة متى انفكت عروة من عراها انحلت سائرها وانفرط عقدها .
من كتاب :
صِرَاعُ مَعَ المَلاحِدَة حتى العظم
تأليف
عبد الرحمن حسن حبنّكة الميدان
أصل معنى الكفر في اللغة التغطية الكاملة والستر التام ، يقال للابس السلاح الذي غطاه السلاح تغطية كاملة : كافر ، لأنه ستر جسمه به ستراً كاملاً ، ويقال للزارع : كافر ، لأنه يدفن الحب في الأرض فيغطيه بالتراب تغطيه كاملة ، ومنه قول الله تعالى في سورة (الحديد/57 مصحف/94 نزول):
{ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ ٱلْكُفَّارَ نَبَاتُهُ..}.
ويقال لليل المظلم : كافر ، لأنه يستر بظلمته كل شيء ، ويقال : كفر الليل الشيء وكفر عليه إذا غطَّاه ، ويقال للبحر : كافر ، لأنه يستر ما فيه ، وهكذا تدور الكلمة في اللغة حول الستر والتغطية .
واستعملت هذه الكلمة في الاصطلاح الديني للدلالة على ما يقابل الإيمان ، والداعي إلى تسمية إنكار الحق الديني كفراً ، أنه قائم على ستر أدلة الإيمان العقلية والفطرية الوجدانية.
فالإيمان هو التصديق ، والكفر عدم التصديق ، وكل إيمان بشيء يستلزم كفراً بنقيضه ، لذلك فكل مؤمن بالعقيدة الإسلامية الصحيحة كافر بنقيضها وبكل مستلزمات هذا النقيض ،ولذلك كان الإيمان بالله يقتضي الكفر بالطاغوت اقتضاءً حتمياً . وفي هذا يقول الله تعالى في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول):
{لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِٱلطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ لاَ ٱنفِصَامَ لَهَا وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
فلا يتم إيمان المؤمن حتى يكفر بكل الطواغيت ويؤمن بالله ، ولذلك اشتملت عبارة التوحيد على السلب والإيجاب ( لا إله إلا الله ) ، فهي تشتمل على الكفر بكل إله سوى الله وعلى الإيمان بالله وحده لا شريك له .
أما غير المؤمنين بالعقيدة الإسلامية إيماناً صحيحاً فقد عكسوا القضية ، فآمنوا بالباطل وكفروا بالحق ، سواء أكان ذلك بصفة كلية لجميع أركان العقيدة الإسلامية ، أو بصفة جزئية ، وفي هذا يقول الله تعالى في سورة (النحل/16 مصحف/70 نزول):
{أَفَبِٱلْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ ٱللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ * وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ شَيْئاً وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ}
ويقول الله تعالى في سورة (العنكبوت/29 مصحف/85 نزول):
{أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِٱلْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ ٱللَّهِ يَكْفُرُونَ * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِٱلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ }.
وحين تطلق كلمة الكفر ومشتقاتها في الاصطلاح الديني فالمراد منها الكفر بما يجب الإيمان به ، أو يجب الإذعان والخضوع له ، إلا أن توجد قرينة تصرف إلى معانٍ أخرى تتصل بالمعنى اللغوي ككفر النعمة ، وكفر العشير ، ونحو ذلك .
فمن أنكر الإسلام ولم يقبل ما جاء فيه من حق فهو كافر ، ومن أنكر أي شيء ثابت في الإسلام بصفة قطعية فهو كافر ، لأنه جاحد دين الله مكذِّب لرسوله فيما جاء عن ربه .
فجحود بعض اليقينيات الدينية يكفي للحكم بالكفر ، ولا يتوقف الحكم بالكفر على إنكار الدين كله ، لأن العقيدة الإسلامية متماسكة الأركان ، متماسكة العناصر تماسكاً كاملاً من جميع الأطراف ، وهي كلٌّ لا يقبل التجزئة ، فمن أنكر بعضها مما هو ثابت بيقين فهو بها كافر ، ومن كذَّب الرسول بشيء قد ثبت عنه يقيناً فقد كفر بنبوته ، ومن كفر بنبوة الرسول فقد كذب شهادة من أرسله ، وهكذا تتسلسل نواقض عناصر الإيمان ، حتى تصل إلى الجذر الأساسي فتنقضه وهذا هو الكفر الأكبر .
والكفر دركات بعضه أشد من بعض ، وبعضه أقبح من بعض ، والإلحاد القائم على إنكار الخالق إنكاراً كلياً أشد وأقبح أنواع الكفر .
* أصناف الكافرين:
إذا أحصينا أحوال الكافرين وجدناهم أصنافاً لا صنفاً واحداً.
الصنف الأول : الضالون فكرياً ، وهم الذين ضلوا سبيل المعرفة الإيمانية الحقة ، وأعماهم التعصب عن رؤية الحق وإن بُيِّن لهم ، فهم لا يستجيبون لداعي الحق مهما لفت أنظارهم إليه ، لأنهم غير مستعدين نفسياً لتغيير عقائدهم الضالة ، ويظلون يؤمنون بالباطل ويزعمونه حقاً.
فهؤلاء هم الكافرون الضالون ، وهم على مستويات بعضها أخس من بعض .
الصنف الثاني: المنحرفون نفسياً والجانحون جنوحاً أخلاقياً ، وهم الذين يعرفون الحق ، ولكنهم يصرون على مخالفته بدافع من الكبر أو الهوى أو التعصب أو بدافع من ضغط البيئة الاجتماعية وخوف انتقادها ولومها أو ضغط القادة المضلين أو خوف فوات منافع جارية ومصالح قائمة ، أو نحو ذلك فهم من أجل ذلك يصرون على الكفر أو يسيرون في ركب الكافرين .
وهؤلاء هم الكافرون المغضوب عليهم ، وهم شر مكاناً وأقبح كفراً ، لأنهم يعرفون وينحرفون فلا يعترفون ، وهم على مستويات بعضها أخس وأقبح من بعض .
الصنف الثالث: منافقون من فئة الضالين فكرياً .
الصنف الرابع: منافقون من فئة المنحرفين نفسياً الجانحين جنوحاً أخلاقياً.
والمنافقون مخادعون جبناء يتظاهرون بالإسلام نفاقاً ، ويبطنون كفرهم القائم على الضلال ، أو القائم على الانحراف والإصرار على الباطل ، وهؤلاء في الدرك الأسفل من دركات الكفر ، لأنهم قد جمعوا قبح الكفر وقبح النفاق وما يلازمه من صفات الكذب والخداع والاستهزاء وغير ذلك من صفات المنافقين .
والنصوص القرآنية قد أوضحت أصناف الكافرين ، واشتملت فاتحة الكتاب على ذكر المضلين والمغضوب عليهم ، وهو يعم منافقي هذين الصنفين ، وبسط القرآن أحوال أصناف الكافرين في مواضع كثيرة ، وكشف صفاتهم وأعمالهم ببيانات مستفيضة .
* من يُحكم عليهم بالكفر؟
تطبيقاً للمفاهيم الإسلامية التي تحدِّد مواقع الكفر نستطيع أن نحكم بالكفر حكماً إسلامياً على من جحد بذات الله أو بصفات الثابتة بيقين ، أو جعل مع الله إلهاً آخر ، أو أنكر رسالة محمد أو جحد بآيات الله وكتابه أو بشيء منه ثابت فيه بيقين ، أو كذَّب الرسول بشيء مما بلَّغه عن ربه وثبتت نسبته إليه بيقين ثبوتاً قطعياً ، أو أنكر شيئاً من أركان الإيمان ، أو أركان الإسلام ، أو جحد بحقيقة ثابتة في الإسلام ثبوتاً قطعياً .
لذلك حكم الله بالكفر على الذين قالوا : إن الله هو المسيح بن مريم ، فقال تعالى في سورة (المائدة/5 مصحف/112 نزول):
{لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَآلُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ ٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
أي فالذي لا يستطيع دفع الهلاك عن نفسه إذا أراد الله أن يهلكه كيف تدَّعي له الإلهية ، والإلهية هي للرب الخالق لا للعبد المخلوق .
والمسيح عيسى عليه السلام أمر قومه في دعوته لهم بأن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئاً ، وأوضح لهم أن الله ربه وربهم ، خلقه كما خلقهم ، وأوضح لهم أنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه جهنم بسبب كفره وظلمه الكبير ، قال الله تعالى في سورة (المائدة/5 مصحف/112 نزول):
{لَقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ ٱلْمَسِيحُ يَابَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيهِ ٱلْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ ٱلنَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ}
وحكم الله بالكفر على الذين قالوا : إن الله ثالث ثلاثة لأنهم جحدوا إحدى الحقائق الكبرى من حقائق الإيمان ، وهي حقيقة أن الله واحد وليس مركباً من ثلاثة ، فقال تبارك وتعالى عقب الآية السابقة:
{لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلاَّ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
وناقش الله أصحاب عقيدة التثليث بقوله بعد ذلك:
{مَّا ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ ٱلطَّعَامَ ٱنْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ ٱلآيَاتِ ثُمَّ ٱنْظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ * قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَٱللَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ}
وهذه المناقشة تقوم على إثبات البشرية للمسيح وأمه ، استناداً إلى بعض أوصافهما البشرية المعروفة فيهما ، إذ كانا يأكلان الطعام ، ومن يأكل الطعام لا يمكن عقلاً أن يكون إلها ً، ومن كان بشراً مخلوقاً فإنه لا يملك لمن يعبده ضراً ولا نفعاً ، ومن لا يملك نفعاً ولا ضراً فإنه لا يستحق أن يتقرب إليه بالعبادة .
وحكم الله بالكفر على الذين كذَّبوا بالقرآن ، فقال تعالى في سورة (فصِّلت/41 مصحف/61 نزول):
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِٱلذِّكْرِ لَمَّا جَآءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لاَّ يَأْتِيهِ ٱلْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}
فجعل سبحانه تكذيبهم بالقرآن كفراً ، وناقشهم في السورة نفسها بقوله تعالى :
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ}
وحكم الله بالكفر على من كذب الرسول محمداً أو غيره من رسل الله صلوات الله عليهم أجمعين ، ففي شأن المنافقين قال الله لرسوله في سورة (التوبة/9 مصحف/113 نزول):
{ٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ}
فجعل تكذيبهم للرسول ، كفراً لأنه في حقيقته تكذيب لله وكفر به وكفر بآياته .
وحكم الله بالكفر على من كذَّب بيوم الدين ،فقال تعالى في سورة (العنكبوت/29 مصحف/85 نزول):
{وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَلِقَآئِهِ أُوْلَـٰئِكَ يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي وَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
فالعقيدة الإسلامية لا تقبل التفريق في الإيمان بين أركان الإيمان ، أو بين عناصر الركن الواحد ، والإيمان غير قابل للتجزئة والتفريق ، بأن يؤمن الإنسان ببعض العناصر ويكفر ببعضها ؛ ومن فعل ذلك كان كافراً غير مؤمن ، وهذا ما أعلنه القرآن بقول الله تعالى في سورة (النساء/4 مصحف/92 نزول):
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرقُواْ بَيْنَ ٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذٰلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً * وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ منْهُمْ أُوْلَـٰئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }
ففي هذا دليل واضح على أن الإيمان لا يقبل التفريق بين أركانه .
وخاطب الله بني إسرائيل بقوله في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول):
{...أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ ٱلْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذٰلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ ٱلّعَذَابِ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}
وفي هذا النص دليل واضح أيضاً على أن عناصر الإيمان لا تقبل التفريق .
فالإيمان وحدة متماسكة متى انفكت عروة من عراها انحلت سائرها وانفرط عقدها .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق