إذا جئنا إلي أمراض القلوب سنجد أن أخطرها وأعمقها وأدقها وأصعبها في العلاج ثلاثة: الِكبر والرياء والحسد، فأولي هذه المعاصي الكِبر، وأصله في الحقيقة معصية أخري هي العُجب أي شهود، ونسبة الفضل إلي النفس لا إلي توفيق الله تعالي، فالعُجب هو أصل مادة الكِبر.
وجوه الِكبر
والكِبر له وجهان
: وجه إلي الباطن ووجه إلي الظاهر، فأما الوجه الذي للباطن فهو شهود الفضل للنفس علي الغير،وأول من قالها إبليس: «أَنَا خَيرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ» (الأعراف:١٢)، فالذي أضاع إبليس كلمة «الأنا» تلك، أي أنه رأي لنفسه الفضل علي الغير، وهو شعور باطني يثمر في السلوك الشعور بالترفع علي الغير.
فالكِبر يبدأ بحال في القلب وفي داخل نفس الإنسان بنسبة التميز التي عنده إليه لا إلي الله تعالي، ثم بعد ذلك يقارن بين ما عنده وبين أحوال الآخرين فيري لنفسه الرفعة والمكانة عليهم، أي ينظر إليهم علي أنه الأفضل، وهذه كلها لا تزال في حدود القلب وخواطره وانفعالاته.
إلا أن لكل شيء ثمرة فيتحول الحال القلبي إلي سلوك وتصرفات أولاً، فينظر إلي الناس بعين الازدراء والانتقاص ويتعامل معهم بجفوة ويرفض قبول نصح الآخرين، ثم ليثمر لنا بعدها أقوالاً.
إبليس كان عنده من الكِبر ما لا يقبل معه الاعتراف لغيره بالفضل، مع أن سبب المكابرة هنا " خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ". لاحظوا أن مسألة المكابرة تلك ابتدأت من داخله ثم صارت سلوكاً ممثلاً في رفض الانصياع لأمر الله تعالي بالسجود، أعقبه القول واللفظ مع الإصرار علي المعصية وغواية آدم وأبنائه حسداً.
يكفي الكِبْر قبحًا أنَّه سبب طرد إبليس من الجنَّة؛ {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34]، وكذلك مآل من سلك سبيله.
خطورة الكبر
يقول الله تعالي: «الْكِبْرِياءُ رِدَائِي وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي مَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا قَذَفْتُهُ فِي النَّارِ» ( مسند أحمد ١٥/٢١١ برقم ٩٣٥٩)، وفي رواية أخري: «الكبرياء ردائي، فمن نازعني ردائي، قصمته» (رواه الحاكم عن أبي هريرة ١/٦٩ وصححه)، فهل تري خطورة أكبر من هذا ؟ إن الذي يقر نفسه علي صفة الِكبر والتكبر إنما يعرضها لحرب الله عز وجل لأنه ينازع الله في صفاته الجلالية.
أ
ول علاج الكبر: علم
أن تعلم من أنت ؟ (فَلْينْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ)، وكان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ورضي الله عنه يقول: «عجبت ممن يتكبر وهو ضعيف تنتنه العرقة، وتقتله الشرقة، وتؤرقه البقة». فأنت في حقيقتك ضعيف إنما تأتيك قوتك من التجائك إلي الله عز وجل. فإذا علمت هذا الأمر وتحول هذا العلم إلي يقين راسخ في داخلك، تحتاج بجانبه إلي عمل.
كمال علاج الكبر: عمل
فاحرص علي الأعمال التي تنمي فيك خلق التواضع ثم بادر إلي الأعمال التي فيها كسر للنفس وردعها من التكبر، ولهذا يحكي عن الشيخ محمد متولي الشعراوي ـ وهو من أئمة المعتنين بتنقية القلوب في زماننا ـ أنه ألقي محاضرة في إحدي جامعات الجزائر بين فيها خطأ الشيوعية بأسلوبه السهل المبسط، فالتف حوله الحضور بمئات الآلاف ورغبوا في أن يحملوه بالسيارة إلي الفندق حيث يقيم إلا أن الشيخ طلب في الطريق النزول عند أحد المساجد، وغاب لفترة طويلة أقلقت من كانوا برفقته فبحثوا عنه طويلاً داخل المسجد، حتي وجدوه وقد خلع ملابسه وأخذ ينظف مراحيض المسجد بنفسه، فلما تعجبوا من ذلك الفعل قال لهم: خشيت علي نفسي من الغرور فأردت أن أذكرها مقامها.. رحمه الله رحمة واسعة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق