القس وسلامة

القس وسلامة

هو عبد الرحمن بن أبي عمار الجمشي من أهل مكة.

وهي سلامة، مولدة من مولدات المدينة كانت مملوكة .

لسهيل بن عبد الرحمن بن عوف هو كان يوصف بأنه

من أعبد أهل مكة، وقد لقبوه بالقس لكثرة تعبده.

وهي كانت من أشهر مطربات عصرها، وكانت

أيضا سيدة صالون من الطراز الأول، تستقبل الشعراء

فينشدونها وتنشدهم الشعر، ويتغنون بجمال

صوتها وظرفها ويتنافسون للحصول على رضائها .

حكايتها اشتهرت وشاع خبرها في الربع الأخير من

القرن الهجري الأول، أثناء خلافة عبد الملك بن مروان وأبنائه .

والحكاية بدأت بصدفة، ولكنها كانت خيراً من ألف ميعاد .

فلأمر ما ذهب الناسك المتعبد إلى المدينة .

والحجاز في صدر الإسلام كانت الحياة فيها كما يصفها

كاتب الأغاني حياة فرح ومرح ومغنى وطرب، إلى .

جانب الزهد والورع والتقوى والحديث والفقه

كان عبد الرحمن بن أبى عمار مارا فسمع غناء سلامة،

فوقف وراح ينصت، وقد أعجبه صوتها وأداءها

إلى الحد الذي جعله غير قادر على التحرك من مكانه.

ورآه مولاها، ولاشك أنه عرفه وعرف قدره حتى أنه رحب به

وقال له : هل لك أن أخرجها إليك أو تدخل فتسمع! فأبى.

فقال مولاها: أأقعدها في موضع تسمع غناءها ولا تراها فأبى

.فلم يزل به حتى أخرجها فأقعدها بين يديه، فغنت له

وصار عبد الرحمن بن أبي عمار يتردد على دار أبي سهيل
.
مدة طويلة فيستمع إلى سلامة وهي تغني، ثم يتحدثان معا وسط الناس

.وكانت حكايتهما قد ذاعت بين أهل مكة، وأصبح الناس يتهامسون بما

يجري في دار سهيل، وذلك الفقيه الورع الذي تحول إلى عاشق متيم بالمغنية.

ولعل سلامة أرادت أن تطور العلاقة بينهما فهي أيضا قد

شغفت بذلك المعجب المفتون، وبأدبه وشخصيته المهذبة.

وهي جارية، يستطيع لو أراد أن يشتريها من مالكها، فتصير ملك

يديه، أو يستطيع أن يشتريها منه، ويحررها ثم يتزوجان على سنة الله ورسوله

لابد أن يحدث شيء لينقذ سمعة الفقيه، ويخفف عن قلبها لوعة

الاشتياق ومرارة الحيرة والضياع . إنها مثل أي أنثى تتوق إلى
.
حياة مستقرة هانئة حيث يمكنها أن تعتق من حياة الليل والسمر والغناء.

لكن عبد الرحمن بن أبى عمار كان له موقف آخر .

فلابد أنه خشي على حياته من سيطرة الحب.

لقد أدرك أنه إذا ما امتلك سلامة فلن ينشغل بشيء آخر سواها .

ولعلها ستغير حياته تماما، وتصرفه عن الفقه الذي تخصص

فيه، والورع الذي عرف عنه حتى أن الناس كانوا يشبهونه بعطاء

بن رباح، أحد التابعين ومن أجَلِّ فقهاء مكة وزهادها،

ولعله كان يتطلع لأن تكون له مكانته، فيجلس في المسجد

الحرام ويجتمع الناس حوله، فيفتيهم ويحدثهم ويعلمهم،

كما كان عطاء يفعل فما أن تطور الحديث بينه وبين سلامة حتى أجابها

يمنعنى عنك قول الله عز وجل: ( الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين )

فأكره أن تحول مودتي لك عداوة يوم القيامة ثم خرج من عندها فما عاد إليها بعد ذلك

هذه الحكاية توقفت عند مغادرة عبد الرحمن دار سلامة،

ولا نعرف إن كانت سلامة حاولت أن توسط بينها

وبينه واحدا من الشخصيات المعروفة التي كانت تتردد عليها

وتستمع لغنائها، كالأحوصي أو قيس بن عبد الله الرقيات اللذين

كانا يعلمان بأمر عشق القس لها، فقد قال قيس الرقيات في ذلك :

لقد فتنتا ريا وسلامة القسا ** فلم تتركا للقس عقلا ولا نفسا

فتاتان أما منهما فشبيهة الـ ** هلال وأخرى منهما تشبه الشمسا

وريا أخت سلامة وكانت تلازمها أثناء زيارة القس لها .

وعلم الخليفة يزيد بن عبد الملك بأمر سلامة فقال

ما يقر عيني ما أوتيت من أمر الخلافة حتى أشتري سلامة.

فأرسل الرسل إلى المدينة فاشتروا سلامة بعشرين ألف دينار.

وعلم الخبر في المدينة، فتوافد الناس على سلامة ليودعوها ويسلموا

عليها، وسارت هي في موكب كبير من أهل المدينة، فلما بلغوا

مكانا يدعى سقاية سليمان بن عبد الملك، قالت للرسل لابد أن

أتوقف لأودع القوم فأذن للناس عليها، فانقضوا حتى ملؤوا فناء القصر

الذي كانت تستريح فيه، فوقفت بينهم ومعها العود وراحت تغني

فارقوني وقد علمت يقينا ** ما لمن ذاق ميتة من إياب

أن أهل الحصاب قد تركوني ** مولعا موزعا بأهل الحصاب

ولم تزل تردد القصيدة حتى راحت، وانتحب

الناس بالبكاء عند ركوبها، فما بقى أحد إلا بكى .

هكذا كان تأثير الفن على أهل المدينة قبل أن ينصرم

قرن واحد على هجرة رسول الله ( ص ) إليها .

كانوا يطلقون لأنفهسم العنان فيعبرون بحرية عن إعجابهم

الشديد بذلك الفن والموهوبين فيه . حتى أن واليا جديدا ولى

على المدينة ونصحه البعض بأن يغلق دور

اللهو ويطهر المدينة من الغناء والمجون

فاستمع للنصيحة وأنذر اهل الطرب أن يخرجوا
.
جميعا من المدينة وأعطاهم مهلة ثلاثة أيام .

إلا أن أحد معجبي سلامة تحايل على الوالي الجديد

حتى جعله يستمع لغنائها، فقام الوالي من مجلسه فقعد

بين يديها ثم قال: لا والله فما مثل هذه تخرج .

قال ابن عتيق : لا يدعك الناس يقولون أقر سلامة وأخرج غيرها.

قال : فدعوهم جميعا.

أما الخليفة فما استقبل سلامة حتى قال: أنا الآن كما قال الشاعر

فألقت عصاها واستقر بها النوى ** كما قر عينا بالإياب المسافر

وأما الفقيه عبد الرحمن بن أبى عمار، فلم تذكر عن فقهه الكتب

شيئا، وإنما فقط خلدت أشعاره التي قالها في حبه لسلامة ومنها

تلك القصيدة التي كانت أول ما غنت سلامة لوليد بن اليزيد

ألا قل لهذا القلب هل أنت مبصر ** وهل أنت عن سلامة اليوم مقصر

ألا ليت أني حين صار بها النوى ** جليس لسلمى حيث ماعج مزهر

وإني إذا ما الموت زال بنفسها ** يزال بنفسي قبلها حين تعبر

إذا أخذت في الصوت كاد جليسها ** يطير إليها قلبه حين ينظر

كان حماما رايعا مؤدبا ** إذا نطقت من صدرها يتغشمر


تقبلوا تحياتى

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق