قال ابن دينار: " الخوف على العمل أن لا يتقبل أشد من العمل ".
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوز بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى يهديهم إلى يوم الدين .
أمّا بعد :
فبالأمس كنا ننتظر رمضان, وها نحن الآن نودعه, فهذه آخر جمعة من رمضان, وهكذا تمضي الأعمال, وإنّما العبد جملة من أيّام كلما ذهب يوم ذهب بعضه. هذا رمضان يمضي, كما كان بالأمس يأتي, فسبحان من قلب الليل والنهار, وأجرى الدهور والأعوام, وفي ذلك معتبر للمعتبرين, وموعظة للمتقين .
هذا رمضان تلك السنة يشيع, تطوى صحائفه بأعمال العباد, ولا تنشر إلّا يوم القيامة للحساب, ولا ندرى أندرك رمضان القابل أم لا, فالله المستعان ؟ فحق لرمضان أن يبكي له ويبكي عليه, كيف لا يبكي المؤمن رمضان وفيه تفتح أبواب الجنان؟ وكيف لا يبكي المذنب ذهابه, وفيه تغلق أبواب النيران ؟ كيف لا يبكى على الوقت تسلسل فيه الشياطين. فبالوعة الخاشعين على فقدانه, ويا حرقة المتقين على ذهابه.
حال الصالحين في رمضان ؟
كان منهم القائم القانت في محرابه {يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [ الزمر: 9] ويخشى عذابه .
ومنهم من قد حبس نفسه على طاعة الله تعالى وذكره, وتجرد من الدنيا, وقطع عن نفسه كل العلائق, وعكف بقلبه وقالبه على ربّه وما يقرب منه, فما بقي في قلبه غير الله تعالى, وليس له هم إلّا مرضاته, يتمثل قول داوود الطائي رحمه الله حينما كان يناجي ربّه في ليله فيقول : " همك عطل علي الهموم, وخالف بيني وبين السهاد, وشوقي إليك أوبق مني اللذات, وحال بيني وبين الشهوات ". ( لطائف المعارف 348 ) .
.
هذا حال الصائمين القائمين, عرفتهم المساجد والخلوات, يطيلون القيام, ويتلون القرآن ويلحون في الدعاء, ويعلنون الإنابة, ويناجون الرحمن, بينما كان غيرهم في مجالس الزور مجتمعين على عرض الشيطان, وبرامج الفساق .
لماذا يعملون ؟
ماذا دها الصالحين ؟ وما الذي دعاهم إلى طول التهجد, ومكابدة السهر والنصب ؟
إنّهم يلتمسون ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر. فلو نطقت المساجد لقالت : " يا ليلة القدر للعابدين اشهدي , يا أقدام القانتين اركعي لربك واسجدي , يا ألسنة السائلين جدي في المسألة واجتهدي ". ( اللطائف 349 ) .
ها هو ذا رمضان يمضي, وقد شهدت لياليه أنين المذنبين, وقصص التائبين, وعبرات الخاشعين وأخبار المنقطعين. وشهدت أسحاره استغفار المستغفرين, وشهد نهاره صوم الصائمين وتلاوة القارئين, وكرم المنفقين .
إنّهم يرجون عفو الله, علموا أنّه عفو كريم يحب العفو فسألوه أن يعفو عنهم .
لما عرف العارفون جلاله خضعوا, ولمّا سمع المذنبون بعفوه طعموا, ما ثم إلّا عفو الله أو النّار .
لولا طمع المذنبين في العفو لاحترقت قلوبهم باليأس من الرحمة, ولكن إذا ذكرت عفو الله استروحت إلى برد عفو . كان أحد الصالحين يدعو قائلاً :
" جرمي عظيم, وعفوك كبير, فاجمع بين جرمي وعفوك يا كريم ". ( اللطائف 370 ).
هذا دعاء الصالحين, وهكذا قضوا رمضان, فلهم الحق أن يبكوا في ختامه, لما له من لذة في قلوبهم, ومع ذلك فهم وجلون من ربهم, خائفون من الرد وعدم القبول, يعلمون أنّ المعول عليه القبول لا الإجتهاد, وأن الإعتبار بصلاح القلوب لا بعمل الأبدان .
كم من قائم محروم " ومن نائم مرحوم " هذا نام وقلبه ذاكر, وذاك قام وقلبه فاجر, لكن العبد مأمور بالسعي في اكتساب الخيرات, والإجتهاد في الصالحات, مع سؤال الله القبول, والإشتغال بما يصلح القلوب, وهذا دأب الصالحين.
قال يحيى بن أبي كثير: " كان من دعائهم : (( اللهم سلمني إلى رمضان, وسلم لي رمضان, وتسلمه منّي متقبلاً )) ". (حلية الأولياء 3 / 69 ) .
وقال ابن دينار: " الخوف على العمل أن لا يتقبل أشد من العمل ". ( الحلية 2 / 387 ).
وقال عبد العزيز بن أبي رواد : " أدركتهم يجتهدون في العمل الصالح فإذا فعلوه, وقع عليهم الهم أيقبل منهم أم لا ". ( اللطائف 375 ) .
علامة القبول ؟
أبين علامة على القبول استمرار العبد على الخير والعمل الصالح بعد رمضان. قال بعضهم : " ثواب الحسنة بعدها, فمن عمل حسنة ثم أتبعها بحسنة بعدها كان ذلك علامة على قبول الحسنة الأولى, كما أن من عمل حسنة ثم أتبعها بسيئة كان ذلك علامة رد الحسنة وعدم قبولها ".
إنّ مقابلة نعمة إدراك رمضان, والتوفيق لصيامه وقيامه بارتكاب المعاصي بعده لمن فعل من بدل نعمة الله كفراً فإن كان قد عزم في صيامه على المعاودة المعاصي بعد انقضاء الصيام فصيامه عليه مردود, وباب الرحمة في وجهه مسدود, إلّا أن يعجل بتوبة نصوح ما أحسن الحسنة بعد السيئة تمحوها, وأحسن منها بعد الحسنة تعقبها, وما أقبح السيئة بعد الحسنة تمحقها وتعفوها "ذنب واحد بعد التوبة أقبح من سبعين ذنباً قبلها, ما أقبح النكسة بعد التوبة " ما أوحش ذل المعصية بعد عز الطاعة.
يا معشر التائبين : لا ترجعوا إلى المعصية بعد رمضان واصبروا على لذة الهوى بحلاوة الإيمان, اصبروا لله تعالى يعوضكم خيراً { إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [ الأنفال:70 ] .
يا معشر الطائعين : إنّ الأعمال التي كان العبد يقترب بها في رمضان لا تنقطع بانقضائه, بل هي باقية بعد انقضائه ما دام العبد حياً, قد لا يطيقها كلها فيخففها لمنه لا يقطعها. قيل لبشر الحافي : إنّ قوماً يتعبدون ويجتهدون في رمضان فقال : بئس القوم قوم لا يعرفون الله حقاً إلّا في شهر رمضان, إنّ الصالح الذي يتعبد السنة كلها . ( اللطائف 369 ). وتلك قاعدة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول :
«أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل» [ رواه البخاري 43/ ومسلم / 782 ] قالت عائشة رضي الله عنها : " وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه " [رواه البخاري / 43] .
فرب رمضان هو رب الشهور كلّها تعالى وتقدس, وعمل المؤمن لا ينقضي حتى يأتيه أجله, قال الحسن رحمه الله تعالى: " إنّ الله لم يجعل لعمل المؤمن أجلاً دون الموت ثم قرأ {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99 ] ". (اللطائف 398 ) .
أما يستحيي قوم من ربّهم إذا انقضى رمضان عطلوا المساجد والقرآن, وعادوا إلى الحرام, نعوذ بالله أن نكون منهم. هذا هو الحديث لمن قضوا رمضان في طاعة الله تعالى, ولمن كان رمضان مناسبة لتوبتهم, وميلاداً جديداً لهم.
لكن ماذا يقال لمن فاتتهم الفرصة, فأضاعوا رمضان في اللّهو والباطل؟
لا أحسن من أن يقال لهم : توبوا إلى ربكم فما يزال ربكم يبسط يده باللّيل ليتوب مسيء النّهار, ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل, ما زال باب التوبة مفتوحاً, فإلى ربّكم أنيبوا. فإن كانت الرحمة للمحسنين فالمسيء لا ييأس منها, وإن تكن المغفرة مكتوبة للمتقين فالظلم لنفسه غير محجوب عنها, وقد قال سبحانه { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] .
يا من ضاع منه رمضان لا يضيع منك عمرك, اختمه بتوبة عسى أن يختم أجلك بالحسنى.
يا أيها العاصي - وكنا ذلك - : لا تقنط من رحمة الله لسوء عملك يعتق من النّار في ختام الشهر من أمثالك. أصدق مع الله يصدقك, وأحسن الظّن بربّك, وتب إليه, فإنّه لا يهلك على الله إلّا هالك. ( اللطائف ).
عسى وقفة للوداع أن تطفئ من نار الشوق ما أحرق, عسى ساعة توبة وإقلاع أن ترفو من الصيام ما تخرق, عسى منقطع عن ركب المقبولين أن يلحق, عسى أسير الأوزار أن يطلق, عسى من استجوب النّار أن يعتق, عسى رحمة المولى لها العاصي يوفق. ( اللطائف 387 ) .
بماذا نختم شهرنا ؟
كتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى إلى الأمصار يأمرهم بختم شهر رمضان بالإستغفار والصدقة - صدقة الفطر - فإنّ صدقة الفطر طهرة للصائم من اللّغو والرفث, والإستغفار يرقع ما تخرق من الصيام باللّغو والرفث, ولهذا قال بعض المتقدمين: " إن صدقة الفطر للصائم كسجدتي السهو للصلاة ".
وقال عمر بن عبد العزيز في كتابه : " قولوا كما قال أبوكم آدم {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[الأعراف:23].
وقولوا كما قال نوح عليه السلام {وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ} [هود :47], وقولوا كما قال إبراهيم عليه السلام { وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:82], وقولو كما قال موسى عليه السلام {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص: 16], وقولوا كما قال ذو النون عليه السلام
{لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء : 87] ". ( اللطائف 387 ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوز بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى يهديهم إلى يوم الدين .
أمّا بعد :
فبالأمس كنا ننتظر رمضان, وها نحن الآن نودعه, فهذه آخر جمعة من رمضان, وهكذا تمضي الأعمال, وإنّما العبد جملة من أيّام كلما ذهب يوم ذهب بعضه. هذا رمضان يمضي, كما كان بالأمس يأتي, فسبحان من قلب الليل والنهار, وأجرى الدهور والأعوام, وفي ذلك معتبر للمعتبرين, وموعظة للمتقين .
هذا رمضان تلك السنة يشيع, تطوى صحائفه بأعمال العباد, ولا تنشر إلّا يوم القيامة للحساب, ولا ندرى أندرك رمضان القابل أم لا, فالله المستعان ؟ فحق لرمضان أن يبكي له ويبكي عليه, كيف لا يبكي المؤمن رمضان وفيه تفتح أبواب الجنان؟ وكيف لا يبكي المذنب ذهابه, وفيه تغلق أبواب النيران ؟ كيف لا يبكى على الوقت تسلسل فيه الشياطين. فبالوعة الخاشعين على فقدانه, ويا حرقة المتقين على ذهابه.
حال الصالحين في رمضان ؟
كان منهم القائم القانت في محرابه {يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [ الزمر: 9] ويخشى عذابه .
ومنهم من قد حبس نفسه على طاعة الله تعالى وذكره, وتجرد من الدنيا, وقطع عن نفسه كل العلائق, وعكف بقلبه وقالبه على ربّه وما يقرب منه, فما بقي في قلبه غير الله تعالى, وليس له هم إلّا مرضاته, يتمثل قول داوود الطائي رحمه الله حينما كان يناجي ربّه في ليله فيقول : " همك عطل علي الهموم, وخالف بيني وبين السهاد, وشوقي إليك أوبق مني اللذات, وحال بيني وبين الشهوات ". ( لطائف المعارف 348 ) .
.
هذا حال الصائمين القائمين, عرفتهم المساجد والخلوات, يطيلون القيام, ويتلون القرآن ويلحون في الدعاء, ويعلنون الإنابة, ويناجون الرحمن, بينما كان غيرهم في مجالس الزور مجتمعين على عرض الشيطان, وبرامج الفساق .
لماذا يعملون ؟
ماذا دها الصالحين ؟ وما الذي دعاهم إلى طول التهجد, ومكابدة السهر والنصب ؟
إنّهم يلتمسون ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر. فلو نطقت المساجد لقالت : " يا ليلة القدر للعابدين اشهدي , يا أقدام القانتين اركعي لربك واسجدي , يا ألسنة السائلين جدي في المسألة واجتهدي ". ( اللطائف 349 ) .
ها هو ذا رمضان يمضي, وقد شهدت لياليه أنين المذنبين, وقصص التائبين, وعبرات الخاشعين وأخبار المنقطعين. وشهدت أسحاره استغفار المستغفرين, وشهد نهاره صوم الصائمين وتلاوة القارئين, وكرم المنفقين .
إنّهم يرجون عفو الله, علموا أنّه عفو كريم يحب العفو فسألوه أن يعفو عنهم .
لما عرف العارفون جلاله خضعوا, ولمّا سمع المذنبون بعفوه طعموا, ما ثم إلّا عفو الله أو النّار .
لولا طمع المذنبين في العفو لاحترقت قلوبهم باليأس من الرحمة, ولكن إذا ذكرت عفو الله استروحت إلى برد عفو . كان أحد الصالحين يدعو قائلاً :
" جرمي عظيم, وعفوك كبير, فاجمع بين جرمي وعفوك يا كريم ". ( اللطائف 370 ).
هذا دعاء الصالحين, وهكذا قضوا رمضان, فلهم الحق أن يبكوا في ختامه, لما له من لذة في قلوبهم, ومع ذلك فهم وجلون من ربهم, خائفون من الرد وعدم القبول, يعلمون أنّ المعول عليه القبول لا الإجتهاد, وأن الإعتبار بصلاح القلوب لا بعمل الأبدان .
كم من قائم محروم " ومن نائم مرحوم " هذا نام وقلبه ذاكر, وذاك قام وقلبه فاجر, لكن العبد مأمور بالسعي في اكتساب الخيرات, والإجتهاد في الصالحات, مع سؤال الله القبول, والإشتغال بما يصلح القلوب, وهذا دأب الصالحين.
قال يحيى بن أبي كثير: " كان من دعائهم : (( اللهم سلمني إلى رمضان, وسلم لي رمضان, وتسلمه منّي متقبلاً )) ". (حلية الأولياء 3 / 69 ) .
وقال ابن دينار: " الخوف على العمل أن لا يتقبل أشد من العمل ". ( الحلية 2 / 387 ).
وقال عبد العزيز بن أبي رواد : " أدركتهم يجتهدون في العمل الصالح فإذا فعلوه, وقع عليهم الهم أيقبل منهم أم لا ". ( اللطائف 375 ) .
علامة القبول ؟
أبين علامة على القبول استمرار العبد على الخير والعمل الصالح بعد رمضان. قال بعضهم : " ثواب الحسنة بعدها, فمن عمل حسنة ثم أتبعها بحسنة بعدها كان ذلك علامة على قبول الحسنة الأولى, كما أن من عمل حسنة ثم أتبعها بسيئة كان ذلك علامة رد الحسنة وعدم قبولها ".
إنّ مقابلة نعمة إدراك رمضان, والتوفيق لصيامه وقيامه بارتكاب المعاصي بعده لمن فعل من بدل نعمة الله كفراً فإن كان قد عزم في صيامه على المعاودة المعاصي بعد انقضاء الصيام فصيامه عليه مردود, وباب الرحمة في وجهه مسدود, إلّا أن يعجل بتوبة نصوح ما أحسن الحسنة بعد السيئة تمحوها, وأحسن منها بعد الحسنة تعقبها, وما أقبح السيئة بعد الحسنة تمحقها وتعفوها "ذنب واحد بعد التوبة أقبح من سبعين ذنباً قبلها, ما أقبح النكسة بعد التوبة " ما أوحش ذل المعصية بعد عز الطاعة.
يا معشر التائبين : لا ترجعوا إلى المعصية بعد رمضان واصبروا على لذة الهوى بحلاوة الإيمان, اصبروا لله تعالى يعوضكم خيراً { إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [ الأنفال:70 ] .
يا معشر الطائعين : إنّ الأعمال التي كان العبد يقترب بها في رمضان لا تنقطع بانقضائه, بل هي باقية بعد انقضائه ما دام العبد حياً, قد لا يطيقها كلها فيخففها لمنه لا يقطعها. قيل لبشر الحافي : إنّ قوماً يتعبدون ويجتهدون في رمضان فقال : بئس القوم قوم لا يعرفون الله حقاً إلّا في شهر رمضان, إنّ الصالح الذي يتعبد السنة كلها . ( اللطائف 369 ). وتلك قاعدة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول :
«أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل» [ رواه البخاري 43/ ومسلم / 782 ] قالت عائشة رضي الله عنها : " وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه " [رواه البخاري / 43] .
فرب رمضان هو رب الشهور كلّها تعالى وتقدس, وعمل المؤمن لا ينقضي حتى يأتيه أجله, قال الحسن رحمه الله تعالى: " إنّ الله لم يجعل لعمل المؤمن أجلاً دون الموت ثم قرأ {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99 ] ". (اللطائف 398 ) .
أما يستحيي قوم من ربّهم إذا انقضى رمضان عطلوا المساجد والقرآن, وعادوا إلى الحرام, نعوذ بالله أن نكون منهم. هذا هو الحديث لمن قضوا رمضان في طاعة الله تعالى, ولمن كان رمضان مناسبة لتوبتهم, وميلاداً جديداً لهم.
لكن ماذا يقال لمن فاتتهم الفرصة, فأضاعوا رمضان في اللّهو والباطل؟
لا أحسن من أن يقال لهم : توبوا إلى ربكم فما يزال ربكم يبسط يده باللّيل ليتوب مسيء النّهار, ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل, ما زال باب التوبة مفتوحاً, فإلى ربّكم أنيبوا. فإن كانت الرحمة للمحسنين فالمسيء لا ييأس منها, وإن تكن المغفرة مكتوبة للمتقين فالظلم لنفسه غير محجوب عنها, وقد قال سبحانه { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] .
يا من ضاع منه رمضان لا يضيع منك عمرك, اختمه بتوبة عسى أن يختم أجلك بالحسنى.
يا أيها العاصي - وكنا ذلك - : لا تقنط من رحمة الله لسوء عملك يعتق من النّار في ختام الشهر من أمثالك. أصدق مع الله يصدقك, وأحسن الظّن بربّك, وتب إليه, فإنّه لا يهلك على الله إلّا هالك. ( اللطائف ).
عسى وقفة للوداع أن تطفئ من نار الشوق ما أحرق, عسى ساعة توبة وإقلاع أن ترفو من الصيام ما تخرق, عسى منقطع عن ركب المقبولين أن يلحق, عسى أسير الأوزار أن يطلق, عسى من استجوب النّار أن يعتق, عسى رحمة المولى لها العاصي يوفق. ( اللطائف 387 ) .
بماذا نختم شهرنا ؟
كتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى إلى الأمصار يأمرهم بختم شهر رمضان بالإستغفار والصدقة - صدقة الفطر - فإنّ صدقة الفطر طهرة للصائم من اللّغو والرفث, والإستغفار يرقع ما تخرق من الصيام باللّغو والرفث, ولهذا قال بعض المتقدمين: " إن صدقة الفطر للصائم كسجدتي السهو للصلاة ".
وقال عمر بن عبد العزيز في كتابه : " قولوا كما قال أبوكم آدم {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[الأعراف:23].
وقولوا كما قال نوح عليه السلام {وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ} [هود :47], وقولوا كما قال إبراهيم عليه السلام { وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:82], وقولو كما قال موسى عليه السلام {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص: 16], وقولوا كما قال ذو النون عليه السلام
{لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء : 87] ". ( اللطائف 387 ) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق