الروح
خطر لي ذات مساء أن أقوم ببحث في سراديب ذاكرتي ..فأرصد في ورقة
كل ما أحفظه من أرقام ..رقم الباسبور ورقم العربة ورقم الشقة ورقم
البطاقة العائلية وتليفونات من أعرف من الأصدقاء و الزملاء وتليفونات
المصالح والجرائد وأرقام جدول الضرب التي أحفظها غيب ا وعمليات الجمع
والطرح والقسمة الأولية التي أعرفها بالبداهة وتواريخ ميلادي وميلاد
أولادي وثوابت الرياضة والطبيعة مثل النسبة التقريبية وسرعة الضوء
وسرعة الصوت ومجموع زوايا المثلث ودرجة غليان الماء وما تعلمته في
كلية الطب عن نسبة سكر الدم وعدد الكريات الحمراء وعدد الكريات
البيضاء وحجم الدم وسرعة النبض وسرعة التنفس وجرعات العقاقير ..وفي
لحظات تجمعت تحت يدي عدة صفحات من مئات الأرقام ..تداعت في
ذهني ولمعت كالبرق وكأني حاسب الكتروني وكان المشهد مذه لا.
كيف أحفظ هذا الكم الهائل من الأعداد..كل عدد يبلغ طوله ستة أو سبعة
أرقام ؟
وأين تختفي هذه الأرقام في تلافيف المخ ؟
وكيف يتم استدعاؤها فتلمع في الوعي كالبرق الخاطف ؟
وبأي أسلوب تصطف هذه الأرقام في أعداد متمايزة ..كل عدد له مذكرة
تفسيرية ملحقة به تشرح
دلالته ومعناه ؟ وكيف تتراكم المئات والمئات من هذه الأرقام في ذاكرتنا ولا
تختلط ولا يطمس بعضها بعض ا؟
وغير الأرقام ..هناك الأسماء والاصطلاحات والكلمات..والأشكال
والوجوه..تزدحم بها رأسنا وهناك معالم الطبيعة التي طفنا بها والأماكن
التي زرناها ..وهناك الروائح ..ومع كل رائحة صورة لامرأة عرفناها أو مشهد
نذكره و لواعج وأشواق وقصص وسيناريو من آلاف اللقطات ..وهناك الطعوم
..والنكهات.يأتي الطعم في الفم فيسيل اللعاب شوق ا أو يتحرك الغثيان
اشمئزاز ا .. ومع كل طعم .. يجري شريط يحكي عن وليمة دسمة ذات يوم
أو جرعة دواء مريرة و مرض طويل ممض و أوجاع أليمة .. حتى لمسة
النسيم الحريرية و رائحة أصداف الشاطئ تحفظها لنا الذاكرة فتهب علينا
لفحات الهواء الرطيب مع ذكراها و كأننا نعيشها من جديد .
حتى الأصوات و الهمسات و الوشوشات و الصخب و الصراخ و الضجيج و
العويل و النشيج .
و فاصل من موسيقى .
و مقطع من أغنية ..
و لطمة على وجه ..
و قرقعة عص ا على الظهر .
و حشرجة ألم ..
كل هذا تحفظه الذاكرة و تسجله في دقة شديدة و أمانة و معه بطاقة
بالتاريخ و المناسبة و أسماء الأشخاص و ظروف الواقعة و محضر بالأقوال ..
معجزة .. اسمها الذاكرة .
إن معنا رقيب ا حقيقي ا يكتب بالورقة و القلم كل دبة نمل في قلوبنا ؟
و ما نتخيل أحيان ا أننا نسيناه نكتشف أننا لم ننسه و أنه موجود يظهر لنا
فجأة في لحظة استرخاء أو حلم أو بعد كأس أو في عيادة طبيب نفسي و
أحيان ا يظهر زلة لسان أو خطأ إملائي .
لا شيء ينسى أبد ا .. و لا شيء يضيع .. و الماضي مكتوب بالفعل لحظة
بلحظة و دقة قلب بدقة قلب .
و السؤال الكبير بل اللغز المحير هو .. أين توجد هذه الصور .. أين هذا
الأرشيف السري ؟
و هو سؤال حاول أن يجيب عليه أكثر من عالم و أكثر من فيلسوف .
الفلاسفة الماديون قالوا إن الذاكرة في المخ .. و إنها ليست أكثر من
تغيرات كيميائية كهربائية تحدث لمادة المخ نتيجة الفعل العصبي للحوادث
تمام ا كما يحدث لشريط ريكوردر عند التسجيل و إن هذه اللفائف المسجلة
تحفظ بالمخ و إنها تدور تلقائي ا لحظة محاولة التذكر فتعيد ما كان في أمانة
و دقة .
الذاكرة مجرد نقش و حفر على مادة الخلايا .
و مصيرها أن تبلى و تتآكل كما تبلى النقوش و تتآكل و ينتهي شأنها
حينما ينتهي الإنسان بالموت و تتآكل خلاياه .
رأي مريح و سهل و لكنه أوقع أصحابه في مطلب لم يستطيعوا الخروج منه
. فإذا كانت الذاكرة هي مجرد طارئ مادي يطرأ على مادة الخلايا فينبغي
أن تتلف الذاكرة لأي تلف مادي مناظر في الخلايا المخية .. و ينبغي أن
يكون هناك توا ز بين الحادثين .. كل نقص في الذاكرة معينة لا بد أن يقابله
تلف في الخلايا المختصة المقابلة .. و هو أمر لا يشاهد في إصابات المخ و
أمراضه .. بل ما يشاهد هو العكس .
يصاب مركز الكلمات فلا تصاب ذاكرة الكلمات بأي تلف , و إنما الذي يحدث
هو عاهة في النطق .. في الأداء الحركي للعضلات التي تنطق الكلمات .
إن الموتور هو الذي يتلف بتلف الخلايا .. أما الذاكرة .. أما صورة الكلمات
في الذهن فتظل سليمة .
و هذا دليل على أن وظيفة المخ ليست الذاكرة و لا التذكر .
و إنما المخ هو مجرد سنترال يعطي التوصيلة . هو مجرد أداة تع بر به
الكلمة عن نفسها في وسط مادي فتصبح صوت ا مسموع ا .. كما يفعل
الراديو حينما يح ول الموجة اللاسلكية إلى نبض كهربائي مسموع .. فإذا
أصيب الراديو بعطل فلا يكون معنى هذا العطل أن تتعطل موجة الأثير .. و
إنما فقط يحدث شلل في جهاز النطق في الراديو . أما الموجة فتظل
سليمة على حالها يمكن أن يلتقطها راديو آخر سليم.
و هذا حال الذاكرة .. فهي صور و أفكار و رؤى مستقلة مسكنها و
مستقرها الروح و ليس المخ و لا الجسد بحال .. و ما المخ إلا وسيلة لنقل
هذه الصور لتصبح كلمات منطوقة مسموعة في عالم ماد ي .
فإذا أصيب المخ بتلف .. يصاب النطق بالتلف و لا تصاب الذاكرة لأن الذاكرة
حكمها حكم الروح و لا يجري عليها ما يجري على الجسد
التوازي مفقود بين الاثنين مما يدل على أننا أمام مستويين (جسد و روح )
لا مستوى واحد اسمه المادة .
و في حوادث النسيان المرحلي .. الذي تنسى فيه مرحلة زمنية بعينها (و
هو الموضوع المحبب عن مؤلفي السينما المصريين ) .. ينسى المصاب
فترة زمنية بعينها فتمحى تمام ا من وعيه و تكشط من ذاكرته .
و كان يتحتم تبع ا للنظرية المادية أن نعثر على تلف مخي جزئي مقابل و
مناظر للفترة المنسية .
لكن من الملاحظ أن أغلب تلك الحالات هي حالات صدمة نفسية عامة و
ليست تلف ا جزئي ا محدد ا .
مرة أخرى نجد أن التوازي مفقود بين حجم الحادث و بين حجم التلف
المادي .
و في حالات التلف المادي الشديد للمخ نتيجة الكسور أو الالتهابات أو
النمو السرطاني , حينما يبدأ النسيان الكامل يلاحظ دائم ا أن هذا النسيان
يتخذ نظام ا خا ص ا فتنسى في البداية أسماء الأعلام و آخر ما ينسى هي
الكلمات الدالة على الأفعال .
و هذا التسلسل المنتظم في النسيان في مقابل إصابة غير منتظمة و
في مقابل تلف مشوش أصاب المخ كيفما اتفق , هو مرة أخرى عدم توا ز
له معنى .. فهنا إصابة في الذاكرة لا علاقة لها من حيث المدى و الكم و
النظام بالإصابة المادية للمخ .
و هكذا تتحطم النظرية المادية للذاكرة على حائط مسدود .
و نجد أنفسنا أمام ظاهرة متعالية على الجسد و على خلايا المخ .
و سوف تموت و تتعفن الخلايا المخية و تظل الذاكرة شاخصة حية
بتفصيلاتها و دقائقها تذكرنا في حياتنا الروحية الثانية بكل ما فعلناه .
و لم يكن الجسد إلا جهاز ا تنفيذ ي ا للفعل و للإفصاح عن النوايا في عالم
الدنيا المادي .. كان مجرد أداة للروح و مطية لها .
لم يكن المخ غلا سنترا لا .. و كابلات توصيل
و كل دوره هو أن يعطي التوصيلة من عالم الروح إلى عالم المادة أو كما
يعطي الخط ....... DONNER LA COMMUNICATION يقول برجسون
.
كابلات الأعصاب تنقل مكنون الروح و تحوله إلى نبض إلكتروني لتنطق به
عضلات اللسان على الطرف الآخر .. كما يفعل الراديو بالموجة اللاسلكية و
هكذا نتبادل الكلام كأجساد في عالم مادي .. فإذا ماتت أجسادنا عدنا
أرواح ا .. لنتذاكر ما فعلناه في دنيانا لحظة بلحظة حيث كل حرف و كل فعل
مسجل .
بل إن هناك نظريات علمية تمضي لأكثر من هذا فترى أن التحصيل هو في
ذاته عملية تذكر لعلم قديم مكنوز و مسطور في الروح .. و ليس تعلم ا من
4 من عدم , و إنما نولد بها .. و = 2 × السبورة .. فنحن لا نكتشف أن 2
كل ما نفعله أننا نتذكرها .. و كذلك بداهات الرياضة و الهندسة و المنطق ..
كلها بداهات نولد بها مكنوزة فينا .. و كل ما يحدث أننا نتذكرها تذكرنا بها
الخبرة الدنيوية كل لحظة .
و بالمثل شخصيتنا .. نولد بها مسطورة في روحنا .. و كل ما يحدث أن
الواقع الدنيوي يقدم المناسبات و الملابسات و القالب المادي لتفصح هذه
الشخصية عن خيرها و شرها .. فيسجل عليها فعلها .
و التسجيل هو الأمر الجديد الذي يتم في الدنيا .
الانتقال من حالة النية إلى حالة التلبس .
و هذا ما تعبر عنه الأديان بأن يحق القول على المذنب بعد الابتلاء و
الاختبار في الدنيا .. فتحق عليه الضلالة و تلزمه رتبته .
و هو أمر قد سبق إليه علم الله .. علم الحصر لا علم الإلزام .. فالله لا يلزم
أحد ا بخطيئة و لا يقهره على شر .. و إنما كل واحد يتصرف على وفاق
طبيعته الداخلية فعله هو ذاته .. و ليس في ذلك أي معنى من معاني
الجبر .. لأن هذه الطبيعة الداخلية هي التي نسميها أحيان ا الضمير و أحيان ا
السريرة و أحيان ا الفؤاد و يسميها الله (( السر )) .
(( يعلم السر و أخفى )) .
خطر لي ذات مساء أن أقوم ببحث في سراديب ذاكرتي ..فأرصد في ورقة
كل ما أحفظه من أرقام ..رقم الباسبور ورقم العربة ورقم الشقة ورقم
البطاقة العائلية وتليفونات من أعرف من الأصدقاء و الزملاء وتليفونات
المصالح والجرائد وأرقام جدول الضرب التي أحفظها غيب ا وعمليات الجمع
والطرح والقسمة الأولية التي أعرفها بالبداهة وتواريخ ميلادي وميلاد
أولادي وثوابت الرياضة والطبيعة مثل النسبة التقريبية وسرعة الضوء
وسرعة الصوت ومجموع زوايا المثلث ودرجة غليان الماء وما تعلمته في
كلية الطب عن نسبة سكر الدم وعدد الكريات الحمراء وعدد الكريات
البيضاء وحجم الدم وسرعة النبض وسرعة التنفس وجرعات العقاقير ..وفي
لحظات تجمعت تحت يدي عدة صفحات من مئات الأرقام ..تداعت في
ذهني ولمعت كالبرق وكأني حاسب الكتروني وكان المشهد مذه لا.
كيف أحفظ هذا الكم الهائل من الأعداد..كل عدد يبلغ طوله ستة أو سبعة
أرقام ؟
وأين تختفي هذه الأرقام في تلافيف المخ ؟
وكيف يتم استدعاؤها فتلمع في الوعي كالبرق الخاطف ؟
وبأي أسلوب تصطف هذه الأرقام في أعداد متمايزة ..كل عدد له مذكرة
تفسيرية ملحقة به تشرح
دلالته ومعناه ؟ وكيف تتراكم المئات والمئات من هذه الأرقام في ذاكرتنا ولا
تختلط ولا يطمس بعضها بعض ا؟
وغير الأرقام ..هناك الأسماء والاصطلاحات والكلمات..والأشكال
والوجوه..تزدحم بها رأسنا وهناك معالم الطبيعة التي طفنا بها والأماكن
التي زرناها ..وهناك الروائح ..ومع كل رائحة صورة لامرأة عرفناها أو مشهد
نذكره و لواعج وأشواق وقصص وسيناريو من آلاف اللقطات ..وهناك الطعوم
..والنكهات.يأتي الطعم في الفم فيسيل اللعاب شوق ا أو يتحرك الغثيان
اشمئزاز ا .. ومع كل طعم .. يجري شريط يحكي عن وليمة دسمة ذات يوم
أو جرعة دواء مريرة و مرض طويل ممض و أوجاع أليمة .. حتى لمسة
النسيم الحريرية و رائحة أصداف الشاطئ تحفظها لنا الذاكرة فتهب علينا
لفحات الهواء الرطيب مع ذكراها و كأننا نعيشها من جديد .
حتى الأصوات و الهمسات و الوشوشات و الصخب و الصراخ و الضجيج و
العويل و النشيج .
و فاصل من موسيقى .
و مقطع من أغنية ..
و لطمة على وجه ..
و قرقعة عص ا على الظهر .
و حشرجة ألم ..
كل هذا تحفظه الذاكرة و تسجله في دقة شديدة و أمانة و معه بطاقة
بالتاريخ و المناسبة و أسماء الأشخاص و ظروف الواقعة و محضر بالأقوال ..
معجزة .. اسمها الذاكرة .
إن معنا رقيب ا حقيقي ا يكتب بالورقة و القلم كل دبة نمل في قلوبنا ؟
و ما نتخيل أحيان ا أننا نسيناه نكتشف أننا لم ننسه و أنه موجود يظهر لنا
فجأة في لحظة استرخاء أو حلم أو بعد كأس أو في عيادة طبيب نفسي و
أحيان ا يظهر زلة لسان أو خطأ إملائي .
لا شيء ينسى أبد ا .. و لا شيء يضيع .. و الماضي مكتوب بالفعل لحظة
بلحظة و دقة قلب بدقة قلب .
و السؤال الكبير بل اللغز المحير هو .. أين توجد هذه الصور .. أين هذا
الأرشيف السري ؟
و هو سؤال حاول أن يجيب عليه أكثر من عالم و أكثر من فيلسوف .
الفلاسفة الماديون قالوا إن الذاكرة في المخ .. و إنها ليست أكثر من
تغيرات كيميائية كهربائية تحدث لمادة المخ نتيجة الفعل العصبي للحوادث
تمام ا كما يحدث لشريط ريكوردر عند التسجيل و إن هذه اللفائف المسجلة
تحفظ بالمخ و إنها تدور تلقائي ا لحظة محاولة التذكر فتعيد ما كان في أمانة
و دقة .
الذاكرة مجرد نقش و حفر على مادة الخلايا .
و مصيرها أن تبلى و تتآكل كما تبلى النقوش و تتآكل و ينتهي شأنها
حينما ينتهي الإنسان بالموت و تتآكل خلاياه .
رأي مريح و سهل و لكنه أوقع أصحابه في مطلب لم يستطيعوا الخروج منه
. فإذا كانت الذاكرة هي مجرد طارئ مادي يطرأ على مادة الخلايا فينبغي
أن تتلف الذاكرة لأي تلف مادي مناظر في الخلايا المخية .. و ينبغي أن
يكون هناك توا ز بين الحادثين .. كل نقص في الذاكرة معينة لا بد أن يقابله
تلف في الخلايا المختصة المقابلة .. و هو أمر لا يشاهد في إصابات المخ و
أمراضه .. بل ما يشاهد هو العكس .
يصاب مركز الكلمات فلا تصاب ذاكرة الكلمات بأي تلف , و إنما الذي يحدث
هو عاهة في النطق .. في الأداء الحركي للعضلات التي تنطق الكلمات .
إن الموتور هو الذي يتلف بتلف الخلايا .. أما الذاكرة .. أما صورة الكلمات
في الذهن فتظل سليمة .
و هذا دليل على أن وظيفة المخ ليست الذاكرة و لا التذكر .
و إنما المخ هو مجرد سنترال يعطي التوصيلة . هو مجرد أداة تع بر به
الكلمة عن نفسها في وسط مادي فتصبح صوت ا مسموع ا .. كما يفعل
الراديو حينما يح ول الموجة اللاسلكية إلى نبض كهربائي مسموع .. فإذا
أصيب الراديو بعطل فلا يكون معنى هذا العطل أن تتعطل موجة الأثير .. و
إنما فقط يحدث شلل في جهاز النطق في الراديو . أما الموجة فتظل
سليمة على حالها يمكن أن يلتقطها راديو آخر سليم.
و هذا حال الذاكرة .. فهي صور و أفكار و رؤى مستقلة مسكنها و
مستقرها الروح و ليس المخ و لا الجسد بحال .. و ما المخ إلا وسيلة لنقل
هذه الصور لتصبح كلمات منطوقة مسموعة في عالم ماد ي .
فإذا أصيب المخ بتلف .. يصاب النطق بالتلف و لا تصاب الذاكرة لأن الذاكرة
حكمها حكم الروح و لا يجري عليها ما يجري على الجسد
التوازي مفقود بين الاثنين مما يدل على أننا أمام مستويين (جسد و روح )
لا مستوى واحد اسمه المادة .
و في حوادث النسيان المرحلي .. الذي تنسى فيه مرحلة زمنية بعينها (و
هو الموضوع المحبب عن مؤلفي السينما المصريين ) .. ينسى المصاب
فترة زمنية بعينها فتمحى تمام ا من وعيه و تكشط من ذاكرته .
و كان يتحتم تبع ا للنظرية المادية أن نعثر على تلف مخي جزئي مقابل و
مناظر للفترة المنسية .
لكن من الملاحظ أن أغلب تلك الحالات هي حالات صدمة نفسية عامة و
ليست تلف ا جزئي ا محدد ا .
مرة أخرى نجد أن التوازي مفقود بين حجم الحادث و بين حجم التلف
المادي .
و في حالات التلف المادي الشديد للمخ نتيجة الكسور أو الالتهابات أو
النمو السرطاني , حينما يبدأ النسيان الكامل يلاحظ دائم ا أن هذا النسيان
يتخذ نظام ا خا ص ا فتنسى في البداية أسماء الأعلام و آخر ما ينسى هي
الكلمات الدالة على الأفعال .
و هذا التسلسل المنتظم في النسيان في مقابل إصابة غير منتظمة و
في مقابل تلف مشوش أصاب المخ كيفما اتفق , هو مرة أخرى عدم توا ز
له معنى .. فهنا إصابة في الذاكرة لا علاقة لها من حيث المدى و الكم و
النظام بالإصابة المادية للمخ .
و هكذا تتحطم النظرية المادية للذاكرة على حائط مسدود .
و نجد أنفسنا أمام ظاهرة متعالية على الجسد و على خلايا المخ .
و سوف تموت و تتعفن الخلايا المخية و تظل الذاكرة شاخصة حية
بتفصيلاتها و دقائقها تذكرنا في حياتنا الروحية الثانية بكل ما فعلناه .
و لم يكن الجسد إلا جهاز ا تنفيذ ي ا للفعل و للإفصاح عن النوايا في عالم
الدنيا المادي .. كان مجرد أداة للروح و مطية لها .
لم يكن المخ غلا سنترا لا .. و كابلات توصيل
و كل دوره هو أن يعطي التوصيلة من عالم الروح إلى عالم المادة أو كما
يعطي الخط ....... DONNER LA COMMUNICATION يقول برجسون
.
كابلات الأعصاب تنقل مكنون الروح و تحوله إلى نبض إلكتروني لتنطق به
عضلات اللسان على الطرف الآخر .. كما يفعل الراديو بالموجة اللاسلكية و
هكذا نتبادل الكلام كأجساد في عالم مادي .. فإذا ماتت أجسادنا عدنا
أرواح ا .. لنتذاكر ما فعلناه في دنيانا لحظة بلحظة حيث كل حرف و كل فعل
مسجل .
بل إن هناك نظريات علمية تمضي لأكثر من هذا فترى أن التحصيل هو في
ذاته عملية تذكر لعلم قديم مكنوز و مسطور في الروح .. و ليس تعلم ا من
4 من عدم , و إنما نولد بها .. و = 2 × السبورة .. فنحن لا نكتشف أن 2
كل ما نفعله أننا نتذكرها .. و كذلك بداهات الرياضة و الهندسة و المنطق ..
كلها بداهات نولد بها مكنوزة فينا .. و كل ما يحدث أننا نتذكرها تذكرنا بها
الخبرة الدنيوية كل لحظة .
و بالمثل شخصيتنا .. نولد بها مسطورة في روحنا .. و كل ما يحدث أن
الواقع الدنيوي يقدم المناسبات و الملابسات و القالب المادي لتفصح هذه
الشخصية عن خيرها و شرها .. فيسجل عليها فعلها .
و التسجيل هو الأمر الجديد الذي يتم في الدنيا .
الانتقال من حالة النية إلى حالة التلبس .
و هذا ما تعبر عنه الأديان بأن يحق القول على المذنب بعد الابتلاء و
الاختبار في الدنيا .. فتحق عليه الضلالة و تلزمه رتبته .
و هو أمر قد سبق إليه علم الله .. علم الحصر لا علم الإلزام .. فالله لا يلزم
أحد ا بخطيئة و لا يقهره على شر .. و إنما كل واحد يتصرف على وفاق
طبيعته الداخلية فعله هو ذاته .. و ليس في ذلك أي معنى من معاني
الجبر .. لأن هذه الطبيعة الداخلية هي التي نسميها أحيان ا الضمير و أحيان ا
السريرة و أحيان ا الفؤاد و يسميها الله (( السر )) .
(( يعلم السر و أخفى )) .
الروح الجزء الثانى
كتاب رحلتي من الشك إلى الإيمان - مصطفى محمود
محتوى الكتاب :
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق